ياسر الفادني يكتب : ماتكون عنيد …وتحب ليك زول مابحب !!

من أعلى المنصة
ياسر الفادني يكتب :
ماتكون عنيد …وتحب ليك زول مابحب !!
اغنية طبع الزمن ، يتجلّى فيها البوح الشعري الصادق في أبسط وأعمق صوره، عبر لغةٍ محكية سودانية تنضح بالشجن والوجد، وتختلط فيها الفطرة بالحكمة، ويصير الألم زادًا شعريًا لا يُقاوم، النص الذي كتبه عز الدين هلالي يعبّر عن فلسفة شعبية راسخة تجاه الزمن والمحن والحب، حيث تتداخل مرارة التجربة مع الإصرار الغريب على الاستمرار في الحب، رغم الألم، كأن المعاناة ذاتها صارت طبعًا من طبائع الحياة لا مهرب منه
الصياغة الشعرية تقوم على بناء داخلي متماسك، يعتمد على التوازي والتكرار لخلق إيقاع وجداني ينسجم تمامًا مع الحالة التي يصورها النص، تتكرر جملة “أصلو طبعك يا زمن” بشكل متعمد، لتشكل لازمة نفسية، تشبه التنهد، أو الاعتراف المستسلم، الذي لا يخلو من مرارة ووعي عميق، التكرار هنا ليس حشوًا، بل توكيدًا على علاقة متوترة لا تنتهي بين الإنسان والزمن، علاقة يسودها الظلم، ولكن لا تنقطع فيها جذوة الأمل، الجمال في النص ليس في زخرفة لغوية، بل في صدقه المجرّد، وتقاطعه مع وجدان شعبي مشترك
نرى إبداعًا لغويًا في الربط بين العاطفة والتجربة الجمعية؛ فالحديث عن “قيس” ليس إسقاطًا ثقافيًا فحسب، بل استحضار لرمز يمثل التيه والانتظار والخذلان، ليقول إن الحب قدر لا مفر منه، حتى وإن كانت نهايته معروفة سلفًا. النص يدمج العام بالخاص، الحاضر بالتراث، ويستخرج من المأساة عزمًا على الاستمرار، ولو عنادًا بلغة بسيطة، يطرح أسئلة الوجود: لماذا نحب؟ لماذا ننتظر؟ ولماذا نستسلم للزمن إن كنا نعلم أنه لا يتغيّر؟ هنا تكمن القوة الشعرية للنص؛ في طرح الأسئلة بلا إجابات، وفي القبول اللا واعي بالمصير.
من الناحية الموسيقية، لحن صلاح بن البادية ينتمي إلى المدرسة الطربية السودانية التقليدية، التي تستند إلى المقامات الشرقية وتُطعّم بإيقاعات محلية ذات جذور إفريقية ونوبية، يتسم اللحن بالحزن الدافئ، يبدأ بنغمة ناعمة تُهيئ المتلقي لحالة من التأمل، ثم يتصاعد تدريجيًا ببطء مدروس، مواكبًا تصاعد الانفعال في الكلمات. بن البادية كان بارعًا في التعامل مع النصوص الطويلة ذات النفس الدرامي، وهذا النص يمنحه مساحة ليطوّع اللحن بانفعالات متنوعة، من الانكسار إلى الرجاء، من الحنين إلى الاحتجاج، وكل ذلك ضمن إطار لحني يجنّب المبالغة ويعتمد على التماسك والإيحاء أكثر من التظاهر بالتقنية
صوت ابن البادية في هذه الأغنية ليس مجرد وسيط بل هو جزء من بنية النص ، صوته يحتفظ بشيء من خشونة الزمن نفسه، فيه بحة لا تخلو من الوقار، تمنح كل بيت من القصيدة بعدًا عاطفيًا أعمق. إنه صوت من خبر الوجع وحفظ وجوه العاشقين، لا يستعرض إمكانياته بل يوظّفها لخدمة النص، قدرته على التلوين اللحني والانزلاق بين المقامات تمنحه مرونة فريدة، لكنه في هذه الأغنية يختار أن يغني بحساسية عالية، كما لو أنه يخشى أن يوقظ ألمًا نائمًا في صدر المستم، بن البادية يحمّل صوته مسئولية التعبير عن جيل كامل، عاش الحب والخسارة، واستأنس بالمحن حتى غدت رفيقة دربه
إني من منصتي استمع ….حيث اغوص خيالا في أغنية “طبع الزمن” فهي ليست مجرد عمل فني، بل هي مرآة لوجدان جماعي، يكتب فيه الشاعر بجراحه، ويغني فيه الفنان بأنفاس شعبٍ بأكمله، إنها لحظة صدق شعري وموسيقي، لا تهتم بالإبهار بقدر ما تُراهن على الأثر، والحق أنها نجحت.