ياسر الفادني يكتب .. من أعلى المنصة…هم في الشدة …بأس يتجلي

ياسر الفادني يكتب :
هم في الشدة …بأس يتجلي
في تاريخ الجيوش العظيمة، تبرز لحظات لا تُقاس بمساحة الأرض التي يُعاد ترتيبها على الخريطة، بل تُقاس بمدى الذكاء العملياتي والإنضباط الإستراتيجي ، حين يتحول الإنسحاب إلى أداة حرب لا تقل شراسة عن التقدم، في هذا السياق، قدم الجيش السوداني نموذجاً نادراً في فنون القتال الحديث حين نفذ عملية إعادة تموضع من المنطقة الحدودية الثلاثية مع مصر وليبيا، ليس على وقع الهزيمة، بل على إيقاع التخطيط، وضربات النيران، وتوازنات المرحلة
المعادلة العسكرية لا تكذب: كل معركة تُبنى على كسر التوقع، وكل قائد ميداني ناجح يعلم أن الثبات الأعمى يُهلك الجندي، بينما المرونة تحت النار هي سلاح الأقوياء، الجيش السوداني لم ينسحب، بل أعاد تشكيل الجبهة، حوّلها إلى فخ من نار، وأبقى العدو في عراء المفاجأة ، كان ذلك إنسحابا ً يعرف طريقه للعودة، ويدرك متى يضغط الزناد وأين يزرع الشراك
ما ميّز هذه العملية ليس مجرد تفادي المواجهة في نقطة معينة، بل في إحكام السيطرة على المشهد الأكبر، إعادة التموضع جاءت وفق خطة معدّة مسبقاً، إستخدمت فيها القوات المسلحة كل أدوات الاستخبارات الميدانية، وحددت خطوط الإنسحاب بدقة متناهية، وفعلت ذلك دون أن تسمح بأي انهيار معنوي أو تفكك تنظيمي، وهو ما يشير إلى مستوى انضباطي عالٍ، قلّما تُظهره الجيوش في ظروف الضغط القصوى
هذا ليس انسحاباً يُروى بصوت منخفض في كتب الهزائم كما قرانا روايته من المليشيا في مدني والخرطوم الخ ، بل قصة تُدرّس في كليات الحرب: كيف يُستخدم الإنسحاب كدرع، وكيف يُغرس كخنجر في خاصرة الخصم، لقد حوّل الجيش السوداني خط التراجع إلى منصة هجوم لاحقة، جرد فيها العدو من ميزة المبادرة، وجعل الأرض نفسها شريكاً في المعركة، تفاجئ وتربك وتؤخر
احترافية الأداء ظهرت في التنسيق بين الوحدات، في تكتيك التضليل، وفي إستغلال الجغرافيا كحليف، لم تُترك ثغرة واحدة للعدو ليصنع منها نصراً إعلامياً، ولم يُسمح لأي عنصر أن يقع خارج منظومة الإنسحاب المنظمة، لقد كان مشهداً يليق بجيوشٍ تملك عقيدة لا تُكسر، ورجالاً لا يخافون إلا الله.
في كل خطوة تراجع، كان هناك تقدم في الوعي القتالي، وفي كل متر أُعيدت السيطرة عليه لاحقاً، يتجلى أن هذا الجيش لا يقاتل فقط بالسلاح، بل بالعقيدة، بالانضباط، وبالذكاء العسكري الذي يجعل من الأرض نفسها أداةً في المعركة.
الجيش السوداني لم ينكسر ، لقد اختار الزمان والمكان ليضرب من جديد، والعدو لا يعرف بعد أنه يرقص على أرض مصفوفة بالأفخاخ، تنتظر الإشارة، ومن يظن أن الانسحاب علامة ضعف، لم يقرأ بعد كيف تنتصر الجيوش العظيمة دون أن تطلق طلقة واحدة في لحظة ما… ثم تباغتك بالعاصفة .