السفير.د.معاوية التوم يكتب :“الحرب وتعاظم الدور والمسؤولية الشرطية في السودان: تحوّلات الوظيفة الأمنية بين مقتضيات الواقع وأزمة الدولة”

السفير.د.معاوية التوم يكتب :“الحرب وتعاظم الدور والمسؤولية الشرطية في السودان: تحوّلات الوظيفة الأمنية بين مقتضيات الواقع وأزمة الدولة”
مقدمة:
منذ تأسيسها ومسيرتها الناهضة لعقود متطاولة، تشكلت الشرطة السودانية كأداة لضبط الأمن و رافعة عدالة و خادمة للمجتمع، وهو إرث عريق استمر بعد الاستقلال، رغم تغوّل الأنظمة عبر مسيرة الحكم بالبلاد دون استثناء. وبقدر تحقيقها للنجاحات والتطور لم تسلم من الانتقاد كما في سائر المنظومات الامنية ، ولم تنجو من محاولات التسييس او التنميط والنيل من مهنيتها واحترافيتها . ورغم محاولات الإصلاح المتكررة، يظل الجهاز الشرطي على أهميته البالغة محط تنازع بين المفهوم العصري للشرطة والأجندات السياسية والأمنية المتعددة والموازنات ، او هكذا يصور لدى البعض.
وقد كشفت هذه الحرب المفروضة على البلاد برعاتها الكثر ، والتي اشعلتها قوات الدعم السريع المتمردة في أبريل 2023 عن اختلالات بنيوية عميقة في أجهزة الدولة، طالت المؤسسة الأمنية والشرطية بكاملها. ففي ظل انهيار شبه كامل للأمن العام طيلة أيامها، وتعاظم الجرائم وحواضنها، واستشراء مشاريع الهدم وتفكيك النسيج المجتمعي، والتجريف الذي خلفه التمرد والاختراقات الأمنية المهولة لشأننا القومي. برزت الحاجة الملحة لدور شرطي أكثر مواكبة وفعّالية، قادر على حفظ الأمن المدني، وتطبيق القانون، وحماية المواطنين واكمال حلقات العدالة. إلا أن هذا الدور يتعاظم الان وسط معادلة معقدة: حرب منهكة وواقع أمني متفجر، و أزمات مركبة خلفتها الحرب وتحديات جسام امام حملات الإفقار الشامل والدمار الكامل لممتلكات الشعب العامة والخاصة. تبرز الحاجة لجهاز شرطي أكثر قوة ، وقدرة وجهوزية، مسلح بكل المعينات التي تمكنه من أداء واجباته ليتجاوز بنا هذا الواقع والإرث المتداعي ويحقق تطلعات الامة في تكامل الأدوار وبناء دولة المؤسسات والقانون واستكمال منظومتها. وذا يقوم على جملة من عناصر التحدي تتمثل في الآتي:
أولًا: التحوّل في طبيعة التهديدات الأمنية
لم تعد التهديدات الأمنية في السودان تقليدية أو محدودة؛ بل تشظّت وتنوعت بفعل الحرب ومهددات الحوار الاقليمي، وتشمل الآن:
• الانفلات الأمني داخل المدن والمناطق الريفية، النهب والسرقة والتعدي بأنواعه .
• الجرائم المنظمة (السطو، السلب، قتل على الهوية) والوجود الأجنبي والمرتزقة .
• توسع دائرة المليشيات وانحلال الضبط النظامي.
• التهديدات العابرة للحدود (السلاح، الهجرة، التهريب ، المخدرات والحرب السيبرانية).
أمام هذا الواقع، تَبرز الحاجة إلى إعادة تعريف الوظيفة الشرطية ورفع الوعي الجمعي بمطلوباتها، بما يحقق حماية المواطنين وضمان السلم الأهلي والمجتمعي.
ثانيًا: أزمة الشرطة بين الإرث السلطوي والواقع الجديد
هنالك مفهوم سائد في الفهم العام منذ عقود،بأن جهاز الشرطة في السودان ظل أداة بيد السلطة أكثر من كونه جهازًا لخدمة المجتمع. وقد فاقم ذلك:
• حملات التسييس والولاء الحزبي والأمني للأنظمة .
• ربما ضعف اليات التدريب الحديث والمهنية الحقوقية.
• تثوير السياج الإداري والمالي.
• ردم هوة الثقة بين المواطنين والشرطة.
وفي ظل الحرب، تفاقمت الأزمة وتمظهراتها ؛ وهنالك من عبر وكتب عن اندهاشه من غياب للشرطة من الساحة وتراجع دورها حتى عهد قريب .وبرزت أهمية الحضور القوي للشرطة أمام تنامي قوة الفصائل والحركات المسلحة، وفوضى تنكب القانون مما زاد من هشاشة الأمن المجتمعي، ونال من هيبة الدولة وسلطانها.
ثالثًا: مسؤولية متعاظمة ومهام متغيرة
غيبت الحرب لوقت غير قصير بصورة شبه كلية مؤسسات الدولة في العديد من المناطق، و بات يُطلب من الشرطة أن تلعب أدوارًا إضافية، منها:
• إدارة النزاعات المحلية والعرقية.
• حماية المنشآت الحيوية والبنية التحتية والمقار الدبلوماسية.
• تنسيق الإغاثة وتأمين المنظمات.
• ضبط حيازة السلاح في المدن والمخيمات.
وبالقطع فإن أداء مثل هذه الأدوار يتطلب شرطة مهنية، مدرّبة، ومحايدة، تحظى بثقة الجمهور، وأنها تعمل لاجله.لا على نحو ما رمت به الشعارات المهينة التي سادت الحقبة منذ ٢٠١٩ ، بالتقليل من رمزية هذا الجهاز الوطني المجتمعي الهام
رابعًا: فرص الإصلاح وتحدياته
ثمة فرصة حقيقية لاستمرار خطى إصلاح جهاز الشرطة كونها مسيرة ممتدة، ضمن مشروع وطني أوسع لإصلاح القطاع الأمني بكامله . ويشمل ذلك:
الفرص:
• الإجماع على ضرورة إعادة ترتيب بناء الدولة المدنية الحقيقة لا الشعارية.
• الحاجة الشعبية للأمن والنظام.
• تعزيز وجود كوادر شرطية مؤهلة و إعادة تموضعها.
التحديات:
• استمرار الحرب والانقسام السياسي.
• تغول المليشيات والجماعات المسلحة.
• ضعف البنية التحتية والتقنية.
• ضعف الميزانية المخصصة للقطاع الشرطي، والأوضاع المعيشية.
. مزيد من الأجهزة والمعدات والآليات اللازمة.
خامسًا: نحو شرطة مدنية حديثة – رؤية مستقبلية
لا بد من تصور شامل ونهضوي اكثر مواكبة للوظيفة الشرطية في السودان ما بعد الحرب، يقوم على:
• استقامة مبدأ الشرطة في خدمة الشعب لا السلطة.
• تطوير وتحديث مناهج التدريب والتأهيل الشرطي.
• إعادة انتشار الشرطة في المدن والمناطق المنكوبة تدريجيًا.
• إشراك المجتمعات المحلية بكل مكوناتها في صياغة أولويات الأمن والشراكة المجتمعية.
• تأسيس آليات رقابة مدنية وبرلمانية على الأداء الشرطي.
• تحسين بيئة العمل وظروف الخدمة لضمان المهنية والحيادية .
خاتمة:
إن تعاظم الدور والمسؤولية الشرطية في السودان خلال الحرب وما بعدها، ليس مسألة تقنية تخص أجهزة الشر طة ودوها داخل المنظومة الامنية والعدلية فحسب، بل هي قضية سياسية وإنسانية تتعلق بإعادة بناء عقد اجتماعي جديد يعزز قوميتها. ففي وطن مزّقته الحرب، تصبح الشرطة إما أداة حماية وترميم للمجتمع ومعالجة التصدعات والتشوهات لمنع الجريمة وسياج العدالة(واليقين انها كذلك) أو مصدرًا جديدًا للانقسام واضعاف منظومة العدالة ودولة القانون. لذا المأمول من قيادة الدولة بحكم امرتها في تعيين وتسمية قيادتها بحكم الوثيقة الدستورية أن تخضع الأجهزة الشرطية لمراجعة فاحصة. وتمكنها من التطوير والتدريب والمواكبة المتقدمة بأحدث السبل والخطط والأجهزة والمعدات. ورفع قدراتها وجاهزيتها للاستجابة المثلى لمتعلقات الحرب ، والتجريف المتعمد الذي لازمها، ادناه ترميم احداث كسر السجون بواسطة تتار العصر لاتساع دائرة الجريمة واحكام الهدم الكامل والدمار الشامل، وكل ارشيف وبيانات ومضابط وارث للهجرة والسجل المدني والسجل الجنائي والسجون والحركة والمرور والحماية والمكافحة والمباحث وخلافه.الي سائر التحديات الكبرى التي تواجه ركائز الامن المجتمعي والسلم الأهلي.
لذا يتعاظم الدور والمسؤولية الشرطية في السودان لتقفز كونها خيارًا، بل ضرورة وطنية واستحقاق مرحلي متقدم . غير أن هذا التعاظم يجب أن يُدار في إطار إصلاحي شامل ومستبصر وفق رؤية كلية علمية ومهنية وخبراتية ، تضع الشرطة في موضعها الريادي الطبيعي كمؤسسة وطنية مهنية، تعمل لصالح الإنسان السوداني، وتحميه من شتى أشكال العنف والفوضى، وتحصن بيئته الامنية وسلامته الشخصية وممتلكاته، دون أن يتصورها او يجافيها فهما كأداة ترهيب أو وسيلة للوصاية السياسية عليه . إن الشرطة، إذا ما اعتلت خطى الإصلاح الوثاب، ستكون أولى بوابات استعادة هيبة الدولة وثقة المواطن وبناء دولة العدالة والقانون وسيادته، بفهم جمعي متحضر سيقود البلاد الي آفاق الاستقرار والنهضة والتعاون المطلق بين المواطن وأجهزته الشرطية !؟.
⸻
١٠ يونيو ٢٠٢٥م